الجيل القادم للزراعة في السعودية: كيف تمكّن التكنولوجيا المزارعين من تحقيق الأمن الغذائي

تاريخ النشر: 13 نوفمبر 2025

فراس وليد

مدون وكاتب مقالات تقنية

في قلب الصحراء، وبين تحديات المناخ وندرة المياه، تنبت اليوم ثورة زراعية صامتة في المملكة العربية السعودية، ولكنها ليست ثورة فؤوس ومحاريث، بل ثورة شرائح إلكترونية، ومجسات ذكية، وخوارزميات تتنبأ بالحاجة إلى الماء قبل أن تشعر بها النباتات نفسها.

ما يحدث في مزارع المملكة ليس مجرد تحديث تقني، بل هو إعادة تشكيل شاملة لدور الزراعة في منظومة الأمن القومي. في ظل رؤية السعودية 2030، لم تعد الزراعة مجرد مصدر غذاء، بل تحولت إلى مختبر تكنولوجي يدمج الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence) وإنترنت الأشياء (Internet of Things) في التربة، ليحوّلها من رمال جافة إلى مصدر مستدام للأمن الغذائي والمائي.

1. الزراعة السعودية بين التحديات والطموح

في بلدٍ صحراوي تقل فيه نسبة الأراضي الزراعية الصالحة، وتُعد المياه فيه مورداً محدوداً إلى حد الندرة، قد يبدو الاستثمار في الزراعة مخاطرة. غير أن القيادة السعودية نظرت إلى الزراعة لا كعبء، بل كفرصة استراتيجية.

رؤية 2030 وضعت الأمن الغذائي (Food Security) والأمن المائي (Water Security) على رأس أولوياتها. هذه الرؤية لا تسعى فقط إلى زيادة الإنتاج المحلي، بل إلى تقليل الاعتماد على الواردات، وتأمين مستقبل الأجيال القادمة في ظل التغيرات المناخية والتقلبات الجيوسياسية.

ويُعد التحول من دور الدولة كمشغل رئيسي للمشروعات الزراعية إلى دورها كمُمكّن ومنظم لسوق حر مدفوع بالابتكار، نقلة نوعية تفتح الباب واسعًا أمام القطاع الخاص والشراكات الدولية لتطوير قطاع AgriTech – التكنولوجيا الزراعية.

2. الزراعة في بيئات متحكم بها (Controlled Environment Agriculture – CEA): الزراعة من أعلى إلى أسفل

في السابق، كان المزارع ينظر إلى السماء طلباً للمطر، أما اليوم، فالمزارع السعودي ينظر إلى لوحة تحكم رقمية تحدد كمية الضوء والرطوبة والمواد المغذية بدقة.

تقنيات الزراعة في البيئات المتحكم بها (CEA) مثل الزراعة العمودية (Vertical Farming) والزراعة المائية (Hydroponics)، تمثل قفزة نوعية في كيفية إنتاج الغذاء دون الاعتماد على التربة أو الظروف الجوية.

🧪 دراسة حالة: شركة آيراما (Iyrama)

شركة سعودية ناشئة دمجت بين الذكاء الاصطناعي والزراعة المائية لتنتج خضروات ورقية عضوية داخل وحدات زراعية مغلقة، تُدار بالكامل من خلال أنظمة ذكية تضبط الضوء، الحرارة، والمغذيات. والنتيجة؟ منتجات عالية الجودة تُباع في المتاجر الكبرى، وكفاءة مائية تصل إلى توفير 90٪ من استهلاك المياه التقليدي.

🌍 شراكة عالمية: Mowreq × YesHealth

هذه الشراكة السعودية التايوانية تهدف إلى إنشاء شبكة مزارع عمودية متطورة، بدأ تنفيذها في الرياض، كنموذج لتوطين التكنولوجيا الزراعية العالمية. الهدف ليس فقط الإنتاج، بل بناء قدرات تشغيلية سعودية عالمية المستوى.

تقنيات CEA لا توفر فقط المياه، بل تقلص البصمة الكربونية، وتُنتج محاصيل صحية على مدار العام في بيئة مغلقة، ما يجعلها مثالاً واضحاً على تقاطع الربح بالاستدامة.

3. الزراعة الذكية والدقيقة: عندما يصبح النبات نفسه “متصلًا بالإنترنت”

لم تعد المزرعة اليوم مجرد حقل مزروع، بل أصبحت شبكة معلوماتية معقدة، حيث يلتقي الذكاء الاصطناعي مع أجهزة الاستشعار لتشكل ما يُعرف بـ الزراعة الذكية (Smart Agriculture) والزراعة الدقيقة (Precision Agriculture).

🤖 مبادرة سعودية كورية: المزرعة الذكية

مشروع نموذجي في مقر المركز الوطني لبحوث الزراعة، يدمج بين:

الزراعة العمودية.
الروبوتات الزراعية.
تحليل البيانات.
توصيات آلية للأصناف الأنسب.

الهدف؟ إنشاء مزرعة ذات إنتاجية مضاعفة، واستخدام نظام “القواعد المتحركة” لزيادة الكثافة الإنتاجية بشكل يفوق البيوت المحمية التقليدية.

🛰️ الطائرات بدون طيار (Drones): عينٌ ذكية في السماء

في الحقول المفتوحة، تقوم طائرات بدون طيار مثل “T40 Agras” بمهام متعددة:

مسح الأراضي وتحديد أماكن الأعشاب الضارة.
تنفيذ الرش المتغير المعدل (Variable Rate Spraying) بدقة متناهية.
مراقبة صحة النبات باستخدام كاميرات طيفية.

هذا التحول الرقمي يضع “البيانات” على رأس قائمة الموارد الزراعية الجديدة، جنبًا إلى جنب مع المياه والتربة.

4. إدارة المياه: حين تصبح كل قطرة محسوبة رقميًا

في السعودية، لا تُعد المياه مورداً عادياً، بل هي كنز استراتيجي نادر، حيث يستنزف القطاع الزراعي أكثر من 85% من الموارد المائية المتاحة. لهذا، لا تكتمل أي ثورة زراعية ما لم تبدأ من ثورة في إدارة الري.

💧 من الري الغامر إلى الري الذكي

كان نظام “الغمر” قديمًا هو القاعدة، واليوم أصبح الاستثناء. وقد تبنت المملكة ثلاث مراحل متزامنة لتطوير الري:

الكفاءة: عبر التحول إلى الري بالتنقيط (Drip Irrigation) والري المحوري (Pivot Irrigation).
الأتمتة: عبر نظم الري الذكي باستخدام إنترنت الأشياء (IoT Smart Irrigation).
استدامة المصادر: من خلال تحلية المياه بالطاقة الشمسية وإعادة التدوير باستخدام الذكاء الاصطناعي.

📡 نظام الري الذكي في جامعة الطائف

مشروع رائد صممه الدكتور هشام الحمياني يستخدم شبكة من المستشعرات لقياس رطوبة التربة، درجة الحرارة، وحتى احتمال هطول الأمطار، وترسل البيانات إلى وحدة تحكم رقمية تتخذ قرار الري تلقائيًا.

هذا النظام لا يسقي النبات وفق جدول ثابت، بل يتفاعل مع احتياجاته البيولوجية والبيئية بشكل حي، فيقلل الهدر ويرفع الإنتاجية.

☀️ تحلية المياه بالطاقة الشمسية: تقنية المستقبل

أطلقت المملكة أول محطة تحلية شمسية في العالم، تقلّص استهلاك الطاقة إلى مستوى قياسي عالمي. كما طورت تقنية القبة الشمسية (Solar Dome) لتقليل الانبعاثات الكربونية وجعل المياه المحلاة خيارًا مستدامًا للري.

🧠 أبحاث KAUST: الذكاء الاصطناعي في المياه

طورت جامعة الملك عبد الله جهاز استشعار يستخدم الشبكات العصبية الاصطناعية (Neural Networks) لرصد البكتيريا والفيروسات في المياه المعاد تدويرها، ما يجعلها صالحة وآمنة للزراعة، ويفتح مصدرًا مائيًا كان في السابق مهدرًا.

5. من التربة إلى الطاولة: الزراعة لا تنتهي بالحصاد

ثلث الإنتاج الزراعي في السعودية يُفقد بعد الحصاد، مما يؤدي إلى هدر سنوي يتجاوز 40 مليار ريال. لذلك، لا تكفي الزراعة الذكية في الحقول، بل يجب أن تمتد إلى سلسلة الإمداد بأكملها.

🚜 تتبع المحاصيل باستخدام الدرونز

طائرات بدون طيار مثل T40 Agras ترسم خرائط دقيقة للمزارع، تحدد أماكن النمو والضعف، وتنفذ الرش الدقيق بذكاء، مما يحافظ على صحة المحاصيل ويقلل استخدام المواد الكيميائية.

📋 معايير الجودة والتوثيق: سعودي قاب (Saudi GAP)

وضعت المملكة معايير شاملة لإدارة المخاطر وتوثيق مراحل الإنتاج. كل حبة تمر يمكن تتبعها من الحقل إلى المستودع، وكل منتج يحمل “جواز سفر رقمي” يضمن الجودة والسلامة.

🧊 مشروع استمر (Estmr): الثورة اللوجستية

مرفق لوجستي ذكي مدعوم من صندوق التنمية الزراعية يقدم:

غرف تبريد وتجميد عالية التقنية.
أنظمة تحكم ذكية بالمناخ.
إدارة رقمية للمخزون والشحن.

هذه البنية التحتية هي ما يحول الزراعة من نشاط موسمي محدود إلى سلسلة إمداد ديناميكية على مدار العام.

6. منظومة الدعم الحكومي: الزراعة كنظام متكامل لا كعملية فردية

التحول الرقمي الزراعي لا يمكن أن ينجح بدون تمكين شامل للمزارعين على ثلاث جبهات: التمويل، الخدمات الرقمية، وبناء القدرات.

💰 صندوق التنمية الزراعية (ADF): تمويل ذكي لا تقليدي

قروض مخصصة لتقنيات الزراعة المائية والبيوت المحمية.
تمويل الزراعة التعاقدية: أي تمويل بناءً على عقود بيع مسبقة، ما يطمئن المزارع بأن له سوقًا مضمونًا قبل أن يبدأ الزراعة.
دعم مشاريع البنية التحتية مثل المستودعات المبردة.

🖥️ منصة نما: بوابة المزارع التنظيمية

تمثل “نما” البوابة الرسمية للتراخيص والسجلات الزراعية مثل:

ترخيص حفر الآبار.
السجل الزراعي الرقمي.
متابعة الامتثال للقوانين البيئية.

🧰 بوابة مزارع: نموذج الدعم الشامل

تم تطويرها خصيصًا لمزارعي النخيل والتمور، وتشمل:

إعانات مالية.
منصة تسويق إلكترونية لبيع المحاصيل.
شهادة جودة (علامة التمور) لرفع القيمة السوقية.
أكاديمية تدريب رقمية.
برنامج ولاء للمزارعين.

🧪 البحث والتطوير: جامعات تقود التحول

KAUST للذكاء الاصطناعي والمياه.
جامعة الملك سعود (KSU) للزراعة الدقيقة.
استدامة للأبحاث التطبيقية.

الحكومة لا تقدم خدمات متناثرة، بل نظامًا بيئيًا مغلقًا (Closed-loop Ecosystem)، حيث يحصل المزارع على التمويل، التدريب، التسويق، والتوثيق من مصدر واحد، في مسار رقمي متكامل يدفعه نحو الابتكار.

7. التحديات الواقعية أمام المزارع السعودي: من الفكرة إلى التنفيذ

رغم المنظومة المتكاملة والدعم المؤسسي، لا تزال فجوة التبني تمثل عائقًا حقيقيًا، خصوصًا أمام المزارعين الصغار والمتوسطين.

💸 تكاليف التأسيس المرتفعة

أنظمة الزراعة العمودية، والطائرات بدون طيار، ومستشعرات إنترنت الأشياء، كلها تقنيات تتطلب استثمارًا رأسماليًا (Capital Expenditure – CAPEX) كبيرًا. وعلى الرغم من القروض الميسّرة، لا يزال كثير من المزارعين يترددون خوفًا من الفشل أو صعوبة التشغيل.

🧠 فجوة المهارات

ليس كل مزارع معتاد على تحليل بيانات أو تشغيل لوحات تحكم ذكية. وهنا تبرز مشكلة نقص الكوادر الفنية المدربة لتشغيل هذه الأنظمة، مما يؤخر عمليات التبني.

🌡️ التغيرات المناخية والظروف البيئية

درجات الحرارة المرتفعة، تقلبات الطقس، والتصحر، تضيف أعباء تقنية واقتصادية على كاهل المزارع، وتفرض الحاجة إلى حلول تقنية أكثر مرونة وتكيّفًا.

8. الزراعة كخدمة (FaaS): الحل الذكي للتحديات المعقدة

ظهر نموذج Farming-as-a-Service – الزراعة كخدمة كخيار مبتكر يحول هذه التحديات إلى فرص، وذلك من خلال تحويل الملكية إلى اشتراك، والتشغيل إلى خدمة.

⚙️ ما هو FaaS؟

هو نموذج يعتمد على تقديم التكنولوجيا للمزارع كخدمة شهرية أو موسمية، بدلاً من شراء المعدات والبرمجيات. تماماً كما تشترك في خدمة إنترنت، يمكنك الاشتراك في:

تحليل بيانات التربة.
خدمة رش الطائرات بدون طيار.
نظام مراقبة ذكي للرطوبة.
أدوات تسويق إلكتروني وبيع مباشر.

🎯 فوائد FaaS:

يخفض التكاليف الأولية عبر تحويل CAPEX إلى OPEX.
يعالج فجوة المهارات، لأن مزود الخدمة هو من يدير التقنية.
يسرّع التبني ويوفر حلولاً مرنة للمزارعين.

🌴 بوابة “مزارع”: مثال حي لـ FaaS

ما تقدمه هذه المنصة من:

تسويق.
تدريب.
دعم مالي.
توثيق وجودة.

هو تطبيق عملي على FaaS لقطاع التمور. ما يُطبق الآن على النخيل، يمكن نسخه لباقي القطاعات الزراعية.

9. توصيات استراتيجية: الطريق نحو تبني شامل ومستدام

🔷 للحكومة (MEWA):

تخصيص دعم مباشر لمزودي خدمات FaaS.
تعديل الأنظمة للسماح بترخيص شركات FaaS الزراعية.
تقديم حوافز ضريبية للمزارعين المشتركين في هذه الخدمات.

🔷 للمستثمرين:

الاستثمار في شركات ناشئة تقدم باقات زراعية ذكية.
دعم الابتكار في الخدمات الزراعية، لا في المعدات فقط.
تمويل مشاريع لوجستية تدعم البنية التحتية لـ FaaS.

🔷 لمطوري التكنولوجيا:

الانتقال من بيع الأجهزة إلى بيع النتائج.
تصميم حلول “جاهزة للاستخدام” تتطلب أقل قدر من التدريب.
دمج الأجهزة والبرمجيات في حزم اشتراك سهلة.

🔷 للجامعات ومراكز البحث:

تدريب مشغلي FaaS وليس فقط المزارعين.
تطوير برامج مهنية تقنية تركز على التشغيل الميداني.
تعزيز الشراكات مع شركات التقنية الزراعية.

حين تتكلم الأرض بلغة البرمجة

ما نشهده اليوم في الزراعة السعودية ليس رقمنة للماضي، بل بناء مستقبل مختلف تمامًا، حيث تتكامل السياسات، والتقنيات، والبشر، لتحويل كل مزرعة إلى مصنع غذائي عالي الكفاءة.

المزارع في الجيل القادم لن يحتاج فقط إلى أدوات الزراعة، بل إلى لوحات قيادة رقمية، وتوصيات ذكية، وشبكات دعم تشبه ما يحصل عليه رائد أعمال تقني.

الزراعة الذكية في السعودية لم تعد حلمًا، بل أصبحت بنية تحتية وطنية، وقضية أمن قومي، وفرصة اقتصادية واعدة.